كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظَّم الله الفاحشة، عظَّم ذكرها بالباطل- وهو القذف. فقال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (4) الآية. ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن. ثم ذكر قصة أهل الإفك وبيّن ما في ذلك من الخير للمقذوف، وما فيه من الإثم للقاذف، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير، ويقولون: هذا إفك مبين. لأن دليله كذب ظاهر. ثم أخبر أن قول بلا حجة فقال: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (13)، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به. وقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (15). فهذا بيان لسبب العذاب. وهو تلقي الباطل بالألسنة، والقول بالأفواه. وهما نوعان محرمان: القول بالباطل والقول بلا علم. ثم قال سبحانه: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (16). فالأول تحضيض على الظن الحسن، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف. ففي الأول قوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} (12)، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به. وفي الصحيح قوله لعائشة: «ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا»؟ فهذا يقتضي جواز بعض الظن، كما احتج البخاري بذلك، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة، يجب أن يظن به الخير دون الشر. وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم، لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة، ما لم يجعله في شيء من المعاصي. لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط. وجعل العقوبة على القاذف بها ثمانين جلدة، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد. ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين، كما قال عليّ: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وكما قال عبد الرحمن بن عوف: إذا شرب هذى وإذا هذى افترى. وحد الشرب ثمانون، وحد المفتري ثمانون. وقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (19). وهذا ذم لمن يحب ذلك. وذلك يكون باللقب فقط، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح. وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها. محبة لوقوعها في المؤمنين، إما حسدًا أو بغضًا، أو محبة للفاحشة. فكل من أحب فعلها، ذكرها. وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها. وكذلك ذكرها غيبة محرم، سواء كان بنظم أو نثر. وكذلك التشبيه بمن يفعلها، منهي عنها مثل الأمر بها. فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة. فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية، مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين. أولئك يعتبرون من الغيرة بهم، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون. فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من فصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية. قيل: أراد الغناء. وقيل: أراد قصص ملوك الكفار.
وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية، فهو من الطاعة. وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة، فهو من المعصية، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة، مثل النهي عنها وعنهم، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقًا حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم- فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى. كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين. وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة. فقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [النمل: 54]، الخ. في مواضع، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه، وليس من باب القذف واللمز. ثم توعدوه بإخراجه من القرية. وهذا حال أهل الفجور، إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه. وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى. حيث أمر بنفي الزاني والمخنث. فمضت السنة، بنفي هذا وهذا. وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب. وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23]، إلى قوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 34]، وما ذكره بعده من قول يوسف: {مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى. وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] الآية، ومع هذا، فمن الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة، حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك. حتى قال بعض السلف: كل ما حصلته من سورة يوسف أنفقته في سورة النور. وقد قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124] الآيات. فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة، ويبغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصدّ عن سبيل الله، ومنه سماع كلام أهل البدع، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات. والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]. وقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 221]، وما بعدها، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} (67). وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]، وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 116] ومثل هذا في القرآن كثير، فأهل المعاصي كثير في العالم، بل هم أكثر، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] [في المطبوع: التوبة: 67] الآية، وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملًا ما يعلمه إلا الله، وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم، ويزينونها لمن يطيعهم. فهم أعداء الرسل وأندادهم. فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة. ويجاهدونهم عليها. وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة. ويجاهدون من يفعلها. قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] الآية، ثم قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] الآية، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76]، ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه. وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر. فإن حب الشيء وفعله، وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر. فإن ذلك مسبوق بعلمه، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض، ولا فعل ولا ترك. لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علمًا مفصلًا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلًا. ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا أمر بأوصاف فلابد من العلم بثبوتها. فكما أنّا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها. بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها. وكل منهما معصية. فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية.
وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملًا. فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره. وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك. وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها، وإلى دفع أهوائهم. وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك. ولا يكون ذلك إلا بالصبر، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3]، وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها. وبيان ما فيها من الفساد. فإن الإنكار بالقلب واللسان، قبل الإنكار باليد، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة، كما أن فيما يذكره أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه، نحو قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [88- 89] الآيات. وهذا كثير جدًا. فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم. إما كافر إما فاجر. وليس منهم من هو بعكسه. ولكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك. وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله. وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه، وهو أدنى الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا» إلى قوله: «وذلك أضعف الإيمان» وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته، وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه. ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد. والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «وذلك أضعف الإيمان» فيمن رأى المنكر. فأما إذا رآه ولم يعلم أنه منكر. ولم يكرهه، لم يكن هذا الإيمان موجودًا في القلب في حال وجوده ورؤيته، بحيث يجب بغضه وكراهته، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا. وإذا لم يكن المنكر موجودًا لم يجب ذلك ويثاب من أنكره عند وجوده، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتى ينكره وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال والمنكرات، قد يعرض عنها كثير من الناس، إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين. وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فتدبر هذا فإنه كثيرًا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران: بغض الكفر وأهله، وبغض الفجور وأهله، وبغض نهيهم وجهادهم، كما يحب المعروف وأهله، ولا يحب أن يأمر به، ولا يجاهد عليه بالنفس والمال. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة: 24] الآية. قال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وكثير من الناس، بل أكثرهم، كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات، ولاسيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات. فربما مالوا إليها تارة وعنها أخرى. فتكون نفس أحدهم لوامة بعد أن كانت أمارة. ثم إذا ارتقى إلى الحال الأعلى في هجر السيئات، وصارت نفسه مطمئنة، تاركًا للمنكرات والمكروهات، لا تحب الجهاد ومصابرة العدوّ على ذلك، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال فإن هذا شيء آخر داخل في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77]، إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85]، والشفاعة: الإعانة. إذ المعين قد صار شفيعًا للمعان. فكل من أعان على برّ أو تقوى كان له نصيب منه. ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كفل منه. وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم، من الإعانة على البر والتقوى والإعانة على الإثم والعدوان، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين. كما قال تعالى قبل ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]، إلى قوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، ومن هاهنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره. والفرق بين المؤمن وبين الكافر الفاجر. فإن المؤمنين يسمعون إقبال أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم، كرؤية الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسمعهم لما بلغهم عن الله. والكافر والمنافق يسمع ويرى على وجه البغض والجهل كما قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] الآية. وقال: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]، وقال: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وقال: {فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]، وقال تعالى في حق المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]، وقال في حق الكفار: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، والآيات في هذا كثيرة جدًّا. وكذلك النظر إلى زينة الدنيا فتنة. قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وفي آخر الحجر. وقوله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة: 55]، وقال: قل للمؤمنين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (30) الآية، وقال: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28] الآية، وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] الآيات، وقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] الآية، وقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سبأ: 9] الآية. وكذلك قال الشيطان: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، وقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء: 61] الآيات. وقال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} [الأنفال: 43] الآيات. فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها، منهي عنه. والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه الاعتبار مأمور به. وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك، فمأمور به. وكذلك رؤية الاعتبار شرعًا في الجملة. فالعين الواحدة ينظر إليها تارة نظرًا مأمورًا به. إما للاعتبار وإما لبغض ذلك. والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه. وكذلك المولاة والمعاداة. وقد يحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه، وهو يظن أنه نظرة عبرة. وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة، كالذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] فإنها نزلت في الجدّ بن قيس لما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال: إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم. فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول. وأما ما يكون من الفعل بالجوارح، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، داخل في هذا. بل يكون عذابه أشد. فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد المحبة. وهذه قد لا يقترن بها قول ولا فعل. فكيف إذا اقترن؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله تعالى من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا. ومن رضي عمل قوم حشر معهم. كما حشرت امرأة لوط معهم. ولم تكن تفعل فاحشة اللواط. فإنه لا يقع من المرأة. ولكن لما رضيت فعلهم، عَمَّها معهم العذاب. فمن هذا الباب قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها، مثل القواد. لما يحصل له من رياسة أو سؤدد أو سحت يأكله. وكذلك أهل الصناعات التي تنفق، مثل المغنين وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. فإنها إذا شاعت تمكنوا من أغراضهم من الرياسة والمال وفعل الفاحشة وتمكنوا من دفع من ينكرها، بخلاف ما إذا كانت قليلة. ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعوا إلى معصية الله وينهى عن طاعته، منهيّ عنه محرّم. كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، أي: ما فيها من ذكر الله وطاعته وامتثال أمره أكبر من ذلك. وقال في الخمر والميسر: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91]، أي: يوقعكم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهى عنه الصلاة، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر، كما هو الواقع. فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالًا كان أو حرامًا. فإن الله سبحانه لم يذكر الجماع، لأن الخمر لا يدعو إلى الحرام بعينه من الجماع. والسكر يزيل العقل الذي يميز به بين الحلال والحرام. والعقل الصحيح ينهى عن مواقعة الحرام. ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش. ما لا يكثر من غيرها، حتى ريما يقع على ابنته وابنه ومحارمه. وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه. ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالسرقة والمحاربة وغير ذلك. لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغير ذلك من فواحش وغناء. وشرب الخمر يظهر أسرار الرجال، حتى يتكلم شاربه بما في باطنه وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار، سقوهم الخمر، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به. وأيضًا فالخمر تصدّ الإنسان عن علمه وتدبيره. فجميع الأمور التي تصد عنها وتوقعها من المفاسد داخل في قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] وكذلك إيقاع العداوة والبغضاء هو منتهى قصد الشيطان ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» قالوا بلى يا رسول الله؛ قال: «إصلاح ذات البين. فإن فساد ذات البين هي الحالقة. لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» وقد ذكرنا في غير هذا أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب يوقع العداوة والبغضاء وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من المعصية والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها ولا يرضى إلا بغاية ما قدر على ذلك. وأيضًا فالعداوة والبغضاء شر محض، لا يحبهما عاقل. بخلاف المعاصي فإن فيها لذة. والنفوس تريدها، والشيطان يدعو إليها، ليوقعها في شرّ لا تهواه. والله سبحانه قد بيّن ما يريد الشيطان بالخمر والميسر، ولم يذكر ما يريده الإنسان. ثم قال في سورة النور: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (21)، وكذلك في البقرة نهى عن اتباع خطواته، وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع. وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا علم وقال فيها: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، فذكر أن الشيطان يأمر بذلك وبعد هذا: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، وقال عن نبيّه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] الآية، وقال عن أمته: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عِمْرَان: 104]، ذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي، وتارة يقرنه بالفحشاء، وتارة يقرن معهما البغي. وكذلك المعروف، تارة يخصه بالأمر، وتارة يقرن به غيره. كقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] الآية، وذلك أن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب. كلفظ الفقير والمسكين. إذا عرف هذا فاسم المنكر يعمّ كل ما كرهه الله ونهى عنه. واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه. وإذا قرن المنكر بالفحشاء، فالفحشاء مبناها على المحبة. والمنكر هو الذي تنكره القلوب. فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول فيه. فإن الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس. وكذلك البغي، قرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس. ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء. ومنشؤه من قوة الغضب. ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها. فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر. وأما الإشراك والقول على الله بلا علم، فإنه منكر محض. ليس في النفوس ميل إليهما. بل إنما يكونان عن عناد وظلم. فهما منكر محض بالفطرة: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (21)، سواء كان الضمير عائدًا إلى الشيطان أو إلى المتّبع. فإن من أتى ذلك، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له. وإن كان الآتي هو الآمر. فالأمر بالفعل أبلغ من فعله. فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه.